فصل: تفسير الآيات (35- 39):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (35- 39):

{يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (36) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (37) قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ (38) وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39)}.
التفسير:
قوله تعالى: {يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}.
تكرار المناداة بقوله تعالى: {يا بَنِي آدَمَ} لاختلاف المنادون من بنى آدم: من بين مؤمن، وكافر، ومشرك، وبين منتبه وغافل، وراغب في الهوى وزاهد فيه.. فهم أنماط شتى، وطوائف مختلفة، وكأن كل طائفة منهم تنادى نداء خاصا، وإن كان النداء عاما موجها للجميع.. وفى مخاطبة الناس بأبناء آدم تذكير لهم بأصل وجودهم، وأنهم كانوا في عالم التراب، وأن من هذا التراب جاء هذا الإنسان العاقل، السميع، البصير، وفى هذا ذكرى وموعظة لأولى الألباب.
وفى قوله تعالى: {إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ} أصل إمّا: إن، وما، وهما شرطيتان، للتوكيد.
وفى قوله تعالى: {يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي} قصّ الآيات: حكايتها كما هى، دون تبديل أو تحريف فيها، ومنه قصّ الأثر وهو تتبعه. وفى هذا إشارة إلى أن الرسل إنّما يبلغون ما أنزل إليهم من ربهم، وأنهم لا يأتون بشيء من عند أنفسهم.
والناس فيما يلقاهم به الرسل من آيات اللّه وكلماته- فريقان: مصدّق ومكذب.. مؤمن وكافر.
فمن صدّق وآمن، وعمل بمقتضى صدقه وإيمانه، فاتّقى اللّه، واستقام على شريعته، فأنى ما تأمر به، وانتهى عما تنهى عنه، فقد سلم، ونجا، وأمن الخوف والحزن، يوم يخاف المكذبون، ويحزنون.. يخافون من عذاب اللّه الراصد لهم، ويحزنون على ما فاتهم من استجابة لرسل اللّه، واستقامة على شريعة اللّه.
ومن كذّب وأبى فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون.. فقد ظلموا أنفسهم بافترائهم على اللّه، وقولهم إذا فعلوا فاحشة: وجدنا عليها آباءنا واللّه أمرنا بها.
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ}.
وقوله تعالى: {أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ}.
المراد بالكتاب هنا الكتاب الذي خطّت فيه أعمال الناس وأرزاقهم.. والمعنى أن هؤلاء الظالمين لن يحرمهم اللّه بسبب ظلمهم ما قدّر لهم في كتابه من أعمار وأرزاق، فهم سيوفّون ما قدّر لهم في هذه الدنيا. {حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ} أي حتى إذا انتهت أعمارهم وجاءتهم رسل الموت من عند اللّه ليقبضوا أرواحهم:
{قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ}.
أي أنهم إذا حضرهم الموت، انكشف لهم ما كانوا فيه من ضلال، واطلعوا على هذا المصير السيّء، الذي هم صائرون إليه، وهنا يتلفتون إلى من أشركوا بهم فلم يجدوا لهم وجودا معهم: {ضلّوا عنّا}!.
إنهم يبحثون عنهم في هذا المزدحم، فلا يرون لهم ظلّا.. لقد تركوهم ليلاقوا مصيرهم المشئوم..!
وقوله تعالى: {وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ} الشهادة هنا هي استيقانهم بواقع أمرهم، وأنهم كانوا على ضلال وكفر.. وتلك هي الشهادة التي شهدوا بها على أنفسهم، فكان حكما عليهم أدانوا أنفسهم به، قبل أن يدينهم الديّان.
قوله تعالى: {قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ}.
إشارة إلى الرحلة الجديدة التي سيأخذ فيها هؤلاء الظالمون طريقهم إلى جهنم.. فمنذ اللحظة التي تنتزع فيها أرواحهم، يدخلون في عالم جديد، ويأخذون مكانهم بين من سبقهم من الظالمين، من الجنّ والإنس.
وهذه الأمم من ظلمة الجنّ والإنس، يعيش بعضها مع بعض في شقاق واختلاف، إذ لا تفاهم بينها، لما اشتملت عليه نفوسهم من أمراض خبيثة، تزعج أصحابها، وتزعج من يتصل بها.. {كلّما دخلت أمة لعنت أختها} فهم يتلاعنون، ويتشاتمون، كما يفعل المجرمون، تضمهم جدران السجن.
ثم لا يقف أمر هذه الجماعات عند هذا، بل إنهم حينما تجتمع جموعهم للحساب والجزاء، يتراشقون بالتهم، ويلقى بعضهم على بعض جريمته التي يحملها بين يديه:
{حتّى إذا أدركوا فيها جميعا} أي إذا أدرك بعضهم بعضا، ولحق آخرهم بأولهم في ساحة الحساب والجزاء: {قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ} وإضلال الأولين للآخرين هو بسبب متابعة الآخرين للأولين، وجريهم على ما كانوا فيه من ضلال، كما كانوا يقولون في الدنيا إذا جاءهم الهدى: {إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ}.
وفى طلب الآخرين للأولين مضاعفة العذاب لهم، محاولة يائسة لدفع العذاب الواقع بهم هم، وإلقاء ذنوبهم على آبائهم وأجدادهم الذين اقتفوا آثارهم، وكانوا بهذا من أصحاب السعير.
وفى قوله تعالى: {قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ} ردّ على أوهام أولئك الذين تابعوا آباءهم وجروا على آثارهم، فإن لهم ضعفا من العذاب كما لآبائهم وأجداهم العذاب المضاعف، لأن كلّا منهم ضلّ وأضلّ.. فالأبناء الذين ضلوا بمتابعة آبائهم، قد ضلّوا، إذ لم يستعملوا عقولهم، كما أنّهم أضلّوا أبناءهم من بعدهم.. وهكذا السابق منهم يضلّ اللاحق، واللاحق يضلّ من بعده.
وقوله تعالى: {وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} هو دفع لهذا الاتهام الذي اتهم به اللاحقون السابقين.. وأنه إذا كان السابقون قد ضلّوا فإن اللاحقين قد ضلوا أيضا، ولم يكن لهم من عقولهم ما يحجزهم عن هذا الضلال، فهم إذن جميعا على سواء في الضلال.. فلم يضاعف العذاب للسابقين ولا يضاعف للاحقين؟
إنهم- سابقهم ولا حقهم- ضالون مجرمون.. ولكلّ ضعف من العذاب.
وفى قوله تعالى: {فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} هو من مقول القول الذي قاله السابقون للاحقين.. وأن هؤلاء اللاحقين إنما يذوقون العذاب بما كسبت أيديهم، ولن يحمل عنهم وزرهم أحد.
وهذا الخصام الذي بين أهل النار هو عذاب إلى عذاب، حيث يتبرأ بعضهم من بعضهم، ويتمنّى بعضهم لبعض مضاعفة البلاء والعذاب، وقد كانوا في دنياهم أصدقاء، وأحباء، وأقارب.. وفى هذا يقول اللّه تعالى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [67: الزخرف].

.تفسير الآيات (40- 43):

{إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (42) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)}.
التفسير:
وإذ يساق أهل النار إلى النار، ويدخل أهل الجنة الجنة، يكون بين هؤلاء وهؤلاء ما بين الأشقياء والسعداء في الدنيا، من مشاعر مختلفة، ونظرات متصادمة! وفى هذا ما فيه من الكشف عن حال كل منهما، فيعرف أهل النار ما يجد أهل الجنة من نعيم، فتشتدّ حسرتهم وتتضاعف آلامهم، على حين يطّلع أهل الجنة على ما يلقى أهل النار من شدة وبلاء، فيزداد نعيمهم، ويتضاعف رضوانهم.
وفى قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ} تيئيس لأصحاب النار، وقطع لكل خيط من خيوط الأمل الواهية التي ينسجونها من الأوهام ليخلصوا من هذا البلاء الذي هم فيه.. وإنهم لن يخلصوا أبدا، ولن يخرجوا من النار أبدا.. ولقد سدّت عليهم منافذ السماء، فلا يقبل لهم عمل، ولا يسمع لهم دعاء: {لا تفتح لهم أبواب السماء} وأنهم لن يدخلوا الجنة التي ينظرون إليها وإلى أهلها، وما يلقون فيها من نعيم، وأنه إذا دخل الجمل في سم الخياط، دخلوا هم الجنة، وهذا تعليق بمستحيل، حسب طبيعة الأشياء، فلن يدخل الجمل في ثقب الإبرة أبدا، ولن يدخلوا هم الجنة أبدا.. {وكذلك نجزى المجرمين}.
وقد قرئ {الجمّل} وهو الحبل المجدول، الذي جمع عدّة حبال، فكان حبلا واحدا في جملته.
والسمّ: الثقب، ومنه سمى السّمّ لأنه ينفذ إلى جسم الإنسان من ثقب تثقبه حمة النحلة أو زنابى العقرب في جسد اللديغ.
وقوله تعالى: {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ}.
المهاد: الفراش، يمهد ويعدّ للنوم عليه، ومنه: المهد، وهو فراش المولود.
والغواشي: جمع غاشية، وهى ما يغشى الإنسان ويظلله، حتى يكسر عنه حدّة الضوء أو يحجبه، ومنه الغاشية بمعنى الداهية التي تهجم على الإنسان، وقد همه.
فهؤلاء الأشقياء الذين ألقوا في جهنم، سيكون لهم مهاد، كما لأهل الجنة مهاد، ولكن هذا المهاد من النار! وسيكون فوقهم ظلّة تظلهم، كما لأهل الجنة ظلال تظللهم، ولكنها ظلة من لهيب جهنم ودخانها..!
وفى قوله تعالى: {وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} تعليل لهذا التنكيل بهؤلاء المجرمين، لأنهم فوق أنهم مجرمون، قد جاوزوا حدود الإجرام، وبالغوا فيه، فبجرمهم دخلوا النار، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى في الآية السابقة {كَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ} وبظلمهم ومجاوزتهم الحدّ في الجرم نكلّ بهم في جهنم، وضوعف لهم العذاب {وكذلك نجزى الظالمين} أي نبالغ في عذابهم كما بالغوا هم في إجرامهم.
ومما يضاعف في عذاب أهل النار، هذا النعيم الذي ينعم به أهل الجنة في مواجهتهم، فإذا هم أغمضوا أعينهم عن أن ينظروا إلى هذا النعيم، حسدا لأهله، امتلأت أسماعهم بكلمات تناجى أهل الجنة بنعيمهم، وتدعوهم إلى التمتع به كما يشاءون، غير مضيق عليهم في شيء منه، ولا محظور عليهم منه شيء، فهو ملك خالص لهم، وفى هذا يقول اللّه تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}.
فهذا هو شأن أهل الجنة، وما يلقون فيها من تكريم وتنعيم.. إنهم أصحاب الجنة، وملّاكها، لا ينازعهم فيها أحد، شأن المالك فيما يملك.
وإذا كان أصحاب النار في خصام وشقاق، وفى تراشق بالسب واللعن، فإن أصحاب الجنة في مودة وسلام، وفى أنس وإخاء.. {ونزعنا ما في صدورهم من غل} فلا أضغان ولا أحقاد، ولا حسد، ولا بغضة.. وفيم يتحاسدون؟ وعلام يتباغضون؟ والخير يملأ كل ما حولهم، ليس لأحد منهم حاجة في شيء إلا وجدها بين يديه.. فليس فيهم غنى وفقير، وشقى وسعيد، إذ كلهم أغنياء من فضل اللّه، سعداء برحمته ورضوانه.. لا يجرى على ألسنتهم إلا الحمد والشكران، للّه رب العالمين، الذي هداهم إلى الإيمان، ووفقهم لمرضاة اللّه، والفوز بهذا النعيم الذي هم فيه. {إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ} يشغلهم حمد اللّه والثناء عليه والتقلب بالنعيم الذي هم فيه، عن النظر إلى ما خلفوا وراءهم في الدنيا، وما أصابهم فيها من خير أو بلاء.
وفى قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ}.
ما يكشف عن فضل اللّه، ورحمته بعباده، وأن ما يكلّفه المؤمنون من أعمال صالحة، من طاعات وعبادات، هو مما تحتمله النفس، ويطيقه كل إنسان.. فلكل إنسان عمل على قدر طافته، وما تسع نفسه، إذا هو آمن وأخلص الإيمان للّه.
فقد رفع اللّه الحرج عن عباده، وأخذهم بلطفه فيما فرض عليهم من تكاليف.. فليس العمل الصالح المطلوب من لنؤمن عملا على إطلاقه، وإنما هو مقدور بقدر كلّ نفس وما تحتمل. فالمريض.. غير المعافى، والأعمى.
غير المبصر، والمقيد.. غير المطلق.. وهكذا.. فقوله تعالى: {لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها} اعتراض بين المبتدأ والخبر، وهو بهذه الصفة قيد وارد على الإطلاق المفهوم من قوله تعالى: {وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ}.
فما أوسع رحمة اللّه، وما أعظم فضله وكرمه!.
وفى قوله تعالى: {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} هو نداء من قبل الحقّ سبحانه وتعالى، يدعو به عباده المؤمنين إلى رحاب جناته، ثم يخلى بينهم وبينها، ويجعلها ميراثا لهم، يرثونه بسبب ما قدموا من أعمال صالحة، كما يرث الولد ما خلّف ولده، وما ثمّر له من مال.
فهذه أعمالهم التي عملوها في دنياهم قد ثمّرت لهم هذا الميراث، وإنه لميراث عظيم.. جنات تجرى من تحتها الأنهار.. وذلك فضل من فضل اللّه، ورحمة من رحماته، وما تلك الأعمال التي عملها المؤمنون إلا أسباب موصلة إلى مرضاة اللّه، أما هي في ذاتها، فلا تعدّ شيئا إلى جانب هذا النعيم المقيم.

.تفسير الآيات (44- 51):

{وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ (45) وَبَيْنَهُما حِجابٌ وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيماهُمْ وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46) وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47) وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49) وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ (50) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (51)}.
التفسير:
تعرض هذه الآيات مشهدا من مشاهد المناظرة والمحاورة، بين أصحاب الجنة وأصحاب النار، كما كان ذلك الشأن بين المؤمنين والكافرين، في الدنيا.
وفى هذا المشهد نرى:
أولا: أصحاب الجنّة ينادون أصحاب النار، ويذكّرونهم بما كانوا يجادلونهم به في الدنيا.. حيث كان المؤمنون يقولون: إننا نعمل على وعد من ربنا، بأن من آمن وعمل صالحا، فله جزاء الحسنى، وأن من كفر وصدّ عن سبيل اللّه، فقد حبط عمله، وهو في الآخرة من الخاسرين.
وها هم أولاء جميعا- المؤمنون والكافرون- في يوم الحساب، والجزاء، ولقاء ما وعد اللّه.
وها هم أولاء المؤمنون قد أنجز اللّه لهم وعده، وأدخلهم جنته، وها هم أولاء الكافرون، قد أخذهم اللّه بوعيده، فألقى بهم في جهنّم.
وفى سؤال أهل الجنة أصحاب النّار هذا السؤال: {قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا} خرى لأصحاب النار، وتقريع لهم، وعذاب فوق العذاب الذي هم فيه.
وفى قوله تعالى على لسان أهل الجنة: {فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا} بلفظ الوعد مطلقا من غير ذكر الموعودين- إلفات لأهل النار إلى ما وعد اللّه المؤمنين به، من رضوان، وليحققوا ما تم في هذا الموعد.. وإنه لنعيم عظيم، يراه أصحاب النار، ولا يدنون منه.
وفى جواب أصحاب النار بقولهم: {نعم} يقولونها في ذلة واستخزاء- في هذا ما يكشف عن مضاعفة آلامهم وإذلالهم.. وإنهم ليقولون هذه الكلمة في حشرجة أشبه بحشرجة الموت، من هول ما يلاقون من عذاب.
ثم ما يكادون ينطقون بهذا الجواب الذي يشهدون به على أنفسهم ويدينونها بما هم فيه من عذاب، حتى يقرع آذانهم هذا الصوت الذي يملأ الآفاق من حولهم: {أن لعنة اللّه على الظالمين}.
إنه صوت الوجود كله، يلعن الظالمين ويخزيهم، ويفضح ما كان منهم من كفر باللّه، وصدّ عن سبيله: {الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ} لقد كانوا هكذا في دنياهم، يصدّون أنفسهم ويصدّون الناس عن طريق الحق المستقيم، ويريدونها طريقا معوجّة، قائمة على الضلال، والبغي والعدوان.. إذ كانوا يكفرون بالآخرة، ولا يرجون لقاء اللّه.
ثانيا: بين أهل الجنة وأصحاب النّار حجاب، يعزل كل فريق عن الآخر، عزلة، لا ينفذ منها شيء من نعيم الجنة، إلى أصحاب النار، كما لا ينفذ منها شيء من لفح جهنم، إلى أهل الجنة، ولكنهم- مع هذا- بمرأى ومسمع من بعض.
وبين الفريقين سور يشفّ عما وراءه وأمامه.. وعلى هذا السور رجال، ليسوا من أهل الجنة، ولا من أصحاب النار.. إنهم لم يتقرر مصيرهم بعد، إذ لم تكن سيئاتهم بالتي تدفع بهم إلى النار، ولم تكن حسناتهم بالتي تفتح لهم أبواب الجنة، فأوقفوا هكذا {على الأعراف}.
والأعراف: ما ارتفع من الأمكنة، ومنه عرف الديك الذي هو أعلى شيء فيه، ومنه المعرفة بالشيء، حيث تكشفه، وتستولى على حقيقته.
وهؤلاء الرجال أشبه بالنظّارة الذين يشهدون موقفا بين فريقين متناقضين.. ينظرون إلى هؤلاء نظرة، وإلى هؤلاء نظرة أخرى، فيكون لهم في ذلك حال من العجب والدهش، ومن المسرّة والغم، ومن الرجاء والخوف.. إنه نوع من العقاب الذي يمسّه لطف اللّه، وتحفّ به رحمته.
وليس يخفى على هؤلاء الرجال من هم أهل الجنة، ومن هم أصحاب النار، فلكلّ من الفريقين سمات ظاهرة تدل عليه، وتكشف عن حاله.. وشتّان بين وجوه يجرى عليها ماء النعيم، وتسفر فيها شموس الأمن والسلامة والرضا، وبين وجوه عليها غبرة ترهقها قترة.. قد كربها الكرب، واستولى عليها البلاء.
ومن هؤلاء الرجال، أو النظارة، تنطلق كلمات الإعجاب بتلك التحية الطيبة إلى أهل الجنة: {سلام عليكم}.
تماما كما يفعل النظارة على مسارح الحياة.
يحيّون الفائزين، ويرجمون المنهزمين!! وإذ يلتفت أهل الجنة إلى هذه الأصوات التي تجيئهم من بعيد، وإذ يرون أنها صادرة من أناس ليسوا من أهل النار، وليسوا كذلك من أهل الجنة-
إذ ذاك يتساءلون: ما بال هؤلاء القوم؟ وما شأنهم في هذا الوضع؟ وإذا كانوا قد نجوا من عذاب جهنم، فلم لم يدخلوا الجنة مع من دخلوها؟.
وعلى هذه الأسئلة وأشباهها يجيء الجواب من قبل الحق سبحانه وتعالى: {لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ} أي لم يدخل هؤلاء الجنة بعد، ولكنهم على طمع من دخولها، وعلى رجاء من رحمة اللّه بأن يصيروا إليها، ولن يخيّب اللّه رجاءهم فيه.. ولكن صبرا.
وثالثا: ما يكاد هؤلاء الرجال النظارة يرفعون أبصارهم عن أهل الجنة، ويلقون بها إلى أصحاب النّار، ليروا كيف يفعل الزمن بهم، وكيف تستمسك حياتهم وهم في هذا البلاء- ما يكادون يلقون بهذه النظرة حتى تضطرب قلوبهم فزعا ورعبا، وحتى تنطلق ألسنتهم بهذا الصوت المكروب: {رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}! وفى قوله تعالى: {وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ} إشارة إلى أن هذه النظرة التي ألقوا بأبصارهم إليها نحو أصحاب النار، لم تكن إلا عن قهر وقسر، بداعي حبّ الاستطلاع، الكامن في طبيعة الإنسان.. فهم قد صرفوا أبصارهم صرفا، وحوّلوها بقوة عن مكانها الذي كانت فيه، من النظر إلى أهل الجنة.
رابعا: وإذ يفزع رجال الأعراف- أو النظارة- إلى اللّه سبحانه، ألّا يجعلهم مع هؤلاء القوم الظالمين من أصحاب النار- إذ ذاك يذكرون أهل الجنة وما هم فيه من نعيم، وكيف كان استهزاء هؤلاء الظالمين بهم في الدنيا، وأنهم لم يكونوا أهلا لكرامة اللّه، إذ لو كانوا أهلا لتلك الكرامة لما وضعهم بهذا الوضع الذليل من الحاجة والفقر والضعف.. هكذا كان المشركون والكافرون يلقون المؤمنين بمثل هذه المقولات- وعندئذ يسأل هؤلاء النظارة أصحاب النار في سخرية واستهزاء، مشيرين لهم إلى أهل الجنة:
{أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ} انظروا كيف أورثهم اللّه جنات النعيم، وكيف ألقى بكم في أفواه جهنم؟ {ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ}.
وخامسا: وفى كلب البلاء، وكظمة العذاب، يتلفت أصحاب النار إلى هؤلاء النظارة الذين يرشقونهم بسهام الاستهزاء والسخرية، ويفتحون عليهم هذه الأبواب المغلقة، من ذلك الماضي الأسود الذي كانوا فيه على طريق الشرك والضلال- وتحدثهم أنفسهم أن ينتقموا من هؤلاء الذين يهزءون بهم ويسخرون، وأن يجذبوهم إليهم ليكونوا معهم في هذا البلاء، وليذوقوا ما يذوقون من عذاب السعير!! وما يكاد هذا الإحساس يجتمع في كيانهم، ويتحول إلى رغبة متحركة تسعى إلى الغاية التي يريدونها، حتى يفجؤهم هذا الصوت السماوي المنطلق إلى هؤلاء النظارة، يحملهم في سرعة خاطفة إلى الجنة، وقد فتحت لهم أبوابها، ومدت إليهم يد الرحمة من تلقائها، وإذا هم وقد أخلوا هذا المكان الذي كانوا فيه، وإذا هم في جنات النعيم: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ}.
وإذن فكل الناس في الجنة، إلا هؤلاء الظلمة.. حتى هؤلاء النظارة الذين كانوا على مشارف جهنم.. قد نجوا من هذا العذاب، وصاروا إلى جنات النعيم.
أما هم فباقون في هذه الوحشة القاتلة، ومع هذا اليأس المطبق، ومع هذا العذاب الأليم.
وهكذا تتغاير صور العذاب، وتتنوع وجوهه وأشكاله.. كلما تجرع منه الظالمون كأسا، وكادوا يستمرئون مرارتها، سقوا كأسا أخرى غيرها، أمرّ مرارة وأشنع طعما.. وهكذا يتقلبون في العذاب، على حين كما يتقلب أهل الجنة في ألوان النعيم.
وسادسا: إذ يخلو الموقف إلا من أصحاب النار في النار، وأهل الجنة في الجنة، وإذ يصير أصحاب النار إلى هذا اليأس القاتل، بعد أن يخلى رجال الأعراف مواقفهم التي كانوا فيها- إذ ذاك لا يجد أصحاب النار إلا أهل الجنة، يشخصون إليهم بأبصارهم ويمدّون إليهم أيديهم، طالبين النجدة والغوث: {وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ}!.
هكذا تبدلت بهم الحال، وقد كانوا من قبل في دنياهم بأنفون أن ينظروا إلى الناس إلا من آفاق عالية، حتى لكأنهم آلهة، والناس عبيد أذلاء لهم.
وها هم أولاء اليوم، يمدون أيديهم في ذلة وانكسار إلى هؤلاء الذين كانوا عبيدا أو أشبه بالعبيد لهم، يطلبون شيئا من تلك الموائد الحافلة التي بين أيديهم.. {أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم اللّه} ويجيئهم الجواب مفحما مخرسا موئسا.
{إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ}.
ولا يكاد هذا الجواب يبلغ أسماعهم، ويملأ قلوبهم يأسا، وهما وكمدا.
حتى يصادق على هذا الجواب من عند اللّه، فتجيء كلمات اللّه مكملة لهذا الحكم، مصدقة عليه، شارحة لأسبابه: {الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ}.
وهكذا يدل الستار على هذا المشهد العظيم من مشاهد القيامة.. لقد انتهى الحساب وفضّت المحاكمة، ووقع الجزاء.. وصار أصحاب النار إلى دارهم التي أعدت لهم، يلقون فيها الويل والبلاء، وصار أهل الجنة إلى دارهم ينعمون فيها، بما أعد اللّه لهم من نعيم ورضوان مقيم.
والمشاهد لهذه المشاهد من خارج، يرى في كلمات اللّه التي صورتها، ما لا يراه على مسرح الحياة، ولو أتيح لهذه المشاهد من أبرع المخرجين من يخرجها ويتخير لها كل ما في الحياة من إمكانيات.. في الممثلين وأدوات التمثيل!